جان يعقوب جبور
في كل عام، يعود اللبنانيون إلى الاحتفال بعيد الاستقلال، لكنّ السؤال الجوهري يبقى معلّقًا فوق المشهد كلّه: هل نمتلك فعلًا استقلالًا كاملًا، أم نعيش في مساحة رمادية بين الدولة واللادولة، بين السيادة والشراكة القسرية، وبين القرار الوطني والتأثير الخارجي؟
الاستقلال، في جوهره، ليس ذكرى ولا عرضًا عسكريًا ولا خطابات ترفعه إلى مرتبة الأسطورة. إنّه ممارسة يومية تُترجم في مؤسسات قوية، وفي مجتمع قادر على حماية الدولة من الانهيار ومن أنفسنا أحيانًا. وفي لبنان، تبدو هذه المعادلة أصعب ما تكون، لكنها ليست مستحيلة، بل يمكن أن تتحوّل إلى مشروع واقعي إذا توافرت الإرادة.
الاستقلال يبدأ من وجود سلطة واحدة تحتكر السلاح وتفرض القانون بلا استثناءات. فالدولة التي لا تسيطر على أرضها وحدودها، ولا توحّد قرارها الأمني والعسكري، تبقى جزئيّة السيادة مهما ارتفعت الشعارات. ومعالجة هذا الملف لا تأتي بالمواجهة، بل بتفاهم داخلي صريح يدمج الاعتبارات الأمنية بالوقائع السياسية، ويضع مسارًا تدريجيًا لبناء منظومة دفاع وطني موحدة.
ولبنان، بحكم موقعه وتكوينه، لا يمكنه العيش في عزلة، لكنه أيضًا لا يستطيع التعايش مع سياسة محاور داخل السلطة نفسها. الاستقلال الحقيقي يحتاج إلى علاقات متوازنة مع الجميع، من دون ارتهان لأحد. فالمعادلة واضحة: كلّما قوي الداخل، تنفست السياسة الخارجية بحرّية؛ وكلّما ازدادت الانقسامات، اتّسعت شهية الخارج.
ومن الطبيعي أن يحتاج لبنان إلى حلفاء، لكن من غير الطبيعي أن يحتاج قضاة لبنان إلى حماية سياسية ليحكموا. العدالة المستقلة هي حجر الأساس لأي دولة تريد أن تحكم لا أن تُحكم، وأن تردع الفساد بدل أن تُغطيه. القضاء المستقل هو آخر خطوط الدفاع عن المواطن، وأوّل مؤسسات بناء الثقة.
البلد الذي يفاوض على قروض عاجلة لتمويل كهرباء متهالكة، أو يسدّ عجزه بطباعة العملة، هو بلد يفتقد أحد أعمدة السيادة؛ إذ إن الاقتصاد المنتِج، لا الريعي، هو الذي يصنع القرار الحر. ومن دون إصلاح مالي شفاف، واستثمار جدّي في الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، سيبقى لبنان معلّقًا على مزاج الأسواق والمساعدات.
لا استقلالَ حقيقيًا من دون مواطن مستقل. وهذا يبدأ من صندوق الاقتراع، ومن التعليم، ومن الإعلام الذي يحاسب بدل أن يحرّض. كما إن استقلالية الرأي تصنع استقلالية الدولة، بينما منطق “التبعية” يعيدنا إلى دوامة الزعامات التي عطّلت المؤسسات وتركت الوطن رهينة المساومات.
والحلّ ليس في إسقاط النظام ولا في التمسك الأعمى به؛ بل في تطويره. لبنان يحتاج إلى تسوية وطنية جديدة تُعيد توزيع الصلاحيات على قاعدة الفعالية لا المحاصصة، وتُنهي الخوف المتبادل بين مكوّناته، وتصنع دولة يشعر فيها كل مواطن أنّه شريك كامل لا ضيفًا ولا تابعًا.
وفي الختام.. الاستقلال ليس وثيقة تُوقَّع؛ بل مسؤولية تُحمَل. وهو لن يكتمل إلّا عندما تصبح الدولة فوق الجميع، ويصبح القانون هو الحكم الوحيد بين اللبنانيين، ويصبح القرار الوطني ملكًا للبلد لا لمن يمسك به ظرفيًا. حينها فقط، وربما لأول مرة منذ عقود، يستطيع اللبناني أن يقول: هذا الاستقلال لنا، لا علينا.
